الأعمى والأطرش (طبعة دار التقوى)
غسان كنفاني
غسان كنفاني
تحكي قصة "الأعمى والأطرش" للأديب الفلسطيني، غسان كنفاني (1936-1972) عن علاقة الفلسطيني "بالانتظار"؛ انتظار معجزة من السماء تغيِّرُ حاله وحال أمته التي تعرضت للظلم والنسيان، وتَكَيُّفَهُ مع هذه الحالة التي تُشبه الموات، وتعبِّر عن هذا الشعور الضاغط بتسرُّب العمر دون تحقيق تقدُّم على أي صعيد. وتناقش كذلك الأسباب الكامنة وراء عيش الفلسطيني هذه الحالة ومعايشته لها، وفي هذا السياق تتناول إشكالية "المعجزة" نفسها تناولًا فلسفيًّا لا يخلو من إسقاطٍ على الواقع السياسي. والأسئلة التي يطرحها كنفاني عن المعجزة ليست من قبيل الأسئلة اللاهوتية بقدر ما هي نفسية فلسفية.
من خلال شخصيتين إحداهما لأطرش يعمل في مركز إعاشة تابع للأونروا مهمته تسليم الواقفين كل يوم في طابور طويل حصَّتهم من الطحين والفول والعدس والسمن، فيرى هذا الأصم أمامه كتلًا بشرية لكن لا يسمع أصواتها سواء أكانت تلك الأصوات تدعو له أو تدعو عليه، وفي هذا رمزية أرادها الكاتب ولم يُصرِّح بها لكن قصته بأكملها مبنية عليها.
أما الشخصية الثانية فهي لرجل أعمى يعمل بائعًا في فرن للخبز، لا يرى مَن أمامه ولكنه يستطيع أن يبادله الكلام ويرد عليه إن سأله. وهنا أيضًا كسابقتها رمزية أرادها الكاتب.
هل هذه الرمزية ترمز إلى دعوة الناس السماء والسماء تراهم ولا تسمعهم أو تسمعهم ولا تجيبهم كما أراد الكاتب القول؟ لا نعرف، لقد انتهت القصة ولا نستطيع أن نجزم بحقيقة ما أراده المؤلف.
على أية حال، من خلال هاتين الشخصيتين ينسج غسان كنفاني قصته مستعرضًا تعلُّق أهالي البلدة بقبر ولي يسمى عبد العاطي (الاسم أيضًا له رمزية متعلقة بالعطاء إن كان ثمة عطاء يُنتَظَر من وليٍّ ميت أم أن هذه أوهام)، وقد نشط الأهالي في زيارتهم لقبر الولي عبد العاطي بعدما رأوا ما يشبه رأسًا بشريًّا معلقًا على غصني شجرة بجوار القبر، وانتشرت شائعات يغذيها الخيال الشعبي بأن هذه رأس الولي، فيقرر الأطرش أبو قيس والأعمى عامر أن يذهبا إليه ليتحرَّيا الخبر بنفسيهما؛ فذهبا وهما في حالة من الشك يتبادلان الأحاديث الساخرة وكان معهما فأس قد اعتزما قلع الشجرة إن تبين لهما أن تلك الرأس غير حقيقية.
وهنا، وتحت الشجرة، وفي هدأة الليل، يدور مشهد جميل وحوار مؤثر رغم أن أحدهما لا يرى صاحبه وصاحبه لا يسمعه، لكن المؤلف استطاع أن ينقل لنا أحاسيسهما ويتحدث بلسان ما يجول في خاطرهما، فأصبحنا نرى المشهد ونسمع ما يريدان قوله وكأننا معهما.
وتظهر المفاجأة المضحكة حدَّ الوجع؛ إذ تبين أن رأس الولي -الذي ظن الناس أن به معجزة جعلته معلقًا بين غصني الشجرة وأنه يسمع دعاءهم ويستجيب لمطالبهم- ما هو إلا فطرٌ نما بهذه الطريقة وتضخم حتى بدا كشكلِ رأسٍ بشري مشوَّه، وحينما تبيَّن لهما ذلك طفقا يضحكان بمرارة وعادا أدراجهما وهما في حال غير الحال التي ذهبا بها.
وهنا بيت القصيد. لقد تخلصا من وهم الانتظار؛ انتظار معجزة من السماء تعيد للأعمى بصره وللأطرش سمعه، وحينما تخلَّصا من وهم الانتظار وانتظار الوهم شعرا بخفة منبعها التحرر من وطأة التعلق بالأحبال الواهية، وأحسا بقوة مبعثها الاعتماد على الساعد الذي لا اعتماد على شيء سواه. وهو ما حدث بعد ذلك مع عامر حينما أهانه زميل له في مكتب توزيع الإعاشة فأمسكه بذراعيه القويتين واعتصره حتى كادت عروقه تخرج من رقبته فعرف هنالك أن به قوة لم يستعملها بهذه الدرجة من قبل.
على أية حال، القصة جريئة لأنها تتناول الإيمان بالقضاء والقدر، وعلاقة الله بالإنسان والإنسان بالله، ومدى استجابته للبشر تخفيفًا لآلامهم ورفعًا للظلم الواقع عليهم؛ تناولًا فلسفيًّا اجتماعيًّا ساخرًا. وهي -رغم رشاقة أسلوبها وحيوية حواراتها عانت في تقديري من الإطالة من جهة وضعف الخاتمة وغموضها والإحساس بأنها جاءت مبتورة من جهة ثانية. لكن، ومع ذلك، فإن الخيط الأساسي فيها، والمتمثل في مسألة الانتظار، وانتظار الانتظار، وإضاعة العمر في الانتظار، وأثر ذلك على الإنسان الفلسطيني والقضية الفلسطينية.. هذا الخيط ظل واضحًا من أول القصة إلى آخرها، وهو ما يعوِّض بعض جوانب القصور الفني التي أشرت إليها.
معلومات حول الكتاب:عدد الصفحات : 112 صفحةالقياس : 14*21 سمالوزن : 250 غرامغلاف الكتاب : غلاف ورقيدار النشر : طبعة دار التقوى
Book Title
الأعمى والأطرش (طبعة دار التقوى)
ISBN
6223006075825
غسان كنفاني
تحكي قصة "الأعمى والأطرش" للأديب الفلسطيني، غسان كنفاني (1936-1972) عن علاقة الفلسطيني "بالانتظار"؛ انتظار معجزة من السماء تغيِّرُ حاله وحال أمته التي تعرضت للظلم والنسيان، وتَكَيُّفَهُ مع هذه الحالة التي تُشبه الموات، وتعبِّر عن هذا الشعور الضاغط بتسرُّب العمر دون تحقيق تقدُّم على أي صعيد. وتناقش كذلك الأسباب الكامنة وراء عيش الفلسطيني هذه الحالة ومعايشته لها، وفي هذا السياق تتناول إشكالية "المعجزة" نفسها تناولًا فلسفيًّا لا يخلو من إسقاطٍ على الواقع السياسي. والأسئلة التي يطرحها كنفاني عن المعجزة ليست من قبيل الأسئلة اللاهوتية بقدر ما هي نفسية فلسفية.
من خلال شخصيتين إحداهما لأطرش يعمل في مركز إعاشة تابع للأونروا مهمته تسليم الواقفين كل يوم في طابور طويل حصَّتهم من الطحين والفول والعدس والسمن، فيرى هذا الأصم أمامه كتلًا بشرية لكن لا يسمع أصواتها سواء أكانت تلك الأصوات تدعو له أو تدعو عليه، وفي هذا رمزية أرادها الكاتب ولم يُصرِّح بها لكن قصته بأكملها مبنية عليها.
أما الشخصية الثانية فهي لرجل أعمى يعمل بائعًا في فرن للخبز، لا يرى مَن أمامه ولكنه يستطيع أن يبادله الكلام ويرد عليه إن سأله. وهنا أيضًا كسابقتها رمزية أرادها الكاتب.
هل هذه الرمزية ترمز إلى دعوة الناس السماء والسماء تراهم ولا تسمعهم أو تسمعهم ولا تجيبهم كما أراد الكاتب القول؟ لا نعرف، لقد انتهت القصة ولا نستطيع أن نجزم بحقيقة ما أراده المؤلف.
على أية حال، من خلال هاتين الشخصيتين ينسج غسان كنفاني قصته مستعرضًا تعلُّق أهالي البلدة بقبر ولي يسمى عبد العاطي (الاسم أيضًا له رمزية متعلقة بالعطاء إن كان ثمة عطاء يُنتَظَر من وليٍّ ميت أم أن هذه أوهام)، وقد نشط الأهالي في زيارتهم لقبر الولي عبد العاطي بعدما رأوا ما يشبه رأسًا بشريًّا معلقًا على غصني شجرة بجوار القبر، وانتشرت شائعات يغذيها الخيال الشعبي بأن هذه رأس الولي، فيقرر الأطرش أبو قيس والأعمى عامر أن يذهبا إليه ليتحرَّيا الخبر بنفسيهما؛ فذهبا وهما في حالة من الشك يتبادلان الأحاديث الساخرة وكان معهما فأس قد اعتزما قلع الشجرة إن تبين لهما أن تلك الرأس غير حقيقية.
وهنا، وتحت الشجرة، وفي هدأة الليل، يدور مشهد جميل وحوار مؤثر رغم أن أحدهما لا يرى صاحبه وصاحبه لا يسمعه، لكن المؤلف استطاع أن ينقل لنا أحاسيسهما ويتحدث بلسان ما يجول في خاطرهما، فأصبحنا نرى المشهد ونسمع ما يريدان قوله وكأننا معهما.
وتظهر المفاجأة المضحكة حدَّ الوجع؛ إذ تبين أن رأس الولي -الذي ظن الناس أن به معجزة جعلته معلقًا بين غصني الشجرة وأنه يسمع دعاءهم ويستجيب لمطالبهم- ما هو إلا فطرٌ نما بهذه الطريقة وتضخم حتى بدا كشكلِ رأسٍ بشري مشوَّه، وحينما تبيَّن لهما ذلك طفقا يضحكان بمرارة وعادا أدراجهما وهما في حال غير الحال التي ذهبا بها.
وهنا بيت القصيد. لقد تخلصا من وهم الانتظار؛ انتظار معجزة من السماء تعيد للأعمى بصره وللأطرش سمعه، وحينما تخلَّصا من وهم الانتظار وانتظار الوهم شعرا بخفة منبعها التحرر من وطأة التعلق بالأحبال الواهية، وأحسا بقوة مبعثها الاعتماد على الساعد الذي لا اعتماد على شيء سواه. وهو ما حدث بعد ذلك مع عامر حينما أهانه زميل له في مكتب توزيع الإعاشة فأمسكه بذراعيه القويتين واعتصره حتى كادت عروقه تخرج من رقبته فعرف هنالك أن به قوة لم يستعملها بهذه الدرجة من قبل.
على أية حال، القصة جريئة لأنها تتناول الإيمان بالقضاء والقدر، وعلاقة الله بالإنسان والإنسان بالله، ومدى استجابته للبشر تخفيفًا لآلامهم ورفعًا للظلم الواقع عليهم؛ تناولًا فلسفيًّا اجتماعيًّا ساخرًا. وهي -رغم رشاقة أسلوبها وحيوية حواراتها عانت في تقديري من الإطالة من جهة وضعف الخاتمة وغموضها والإحساس بأنها جاءت مبتورة من جهة ثانية. لكن، ومع ذلك، فإن الخيط الأساسي فيها، والمتمثل في مسألة الانتظار، وانتظار الانتظار، وإضاعة العمر في الانتظار، وأثر ذلك على الإنسان الفلسطيني والقضية الفلسطينية.. هذا الخيط ظل واضحًا من أول القصة إلى آخرها، وهو ما يعوِّض بعض جوانب القصور الفني التي أشرت إليها.
معلومات حول الكتاب:
عدد الصفحات : 112 صفحة
القياس : 14*21 سم
الوزن : 250 غرام
غلاف الكتاب : غلاف ورقي
دار النشر : طبعة دار التقوى